التدين مصطلح يذكره الكثير فيقال فلان متدين أو فلانة متدينة، فماذا تعني هذه الكلمة التي قد يطلقها البعض عندما يرى تديناً ظاهراً في المظهر دون أن يدرك شيئاً عن المخبر، أو علم شيئاً عن المخبر دون أن يلتزم بالمظهر، ولذا أحببت أن أضع صورة للمتدين المتوازن في نفسه والمثالي مع زوجه وأهله، والمنتج المتعاون في عمله، وطبيب قلوب في علاج أمراض مجتمعه، لعلها تساهم في وضوح معنى التدين فيكون مظهرنا ومخبرنا معاً ترجمة حقيقية لهذا المعنى الجميل " التـديـن" .
أولا: شخص متوازن في نفسه
أول صفة للشاب المتدين بحق هي التوازن، ففي الجانب الروحي تراه رقيق الروح، شفاف النفس، صافي القلب، دائم التطهير لنفسه من أمراض النفس: كالغل والحسد، مستعيناً بالعبادات لتحقيق ذلك، فهو ما بين صلاة ودعاء، واستغفار وقنوت وإنابة وتفكر في الآخرة.
مثقف الفكر
وفى الجانب العقلي تراه مثقفا يأخذ بجانب العلم، بمفهومة الشامل، وإن تخصص أدرك أن فرض الكفاية على المجتمع أصبح فرض عين عليه يعرف مبادئ العلوم، وإطار السياسة العامة التي يسير عليها مجتمعه، منفتح على تخريج ثقافات العالم يعرف غثها وثمينها، وما يأخذ منها وما يذر.
قوي الجسم
وفى الجانب الجسدي يأكل من الطيبات كما أراد القرآن الكريم {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ويبادر إلى العلاج مع أول بوادر المرض ويتريض باستمرار، تطبيقاً للحديث الشريف (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).
متين الخلق
وفى الجانب الأخلاقي تراه متميزا في سلوكه بالأمانة والصدق، والتواضع والعزة والحياء، يقابل السيئة بالحسنة، يعدل في الرضا والغضب، مقتصد غير مسرف، لا يعرف الكآبة وطول العبوس في وجوه الناس، ليس فظاً غليظا، ولا محباً للشذوذ والمخالفة، بل يحب الألفة والموافقة، وصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
حسن التقدير للأمور
ومن التوازن أن يقدر الأمور حق قدرها، فيصغر عنده كل أمر صغير، ويعظم كل أمر عظيم، فلا يعطي للشكل اهتماماً فوق الجوهر، ولا يعطي للجلباب أو اللحية اهتماماً أكبر من فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال وما يحدث في العالم، لا يهتم بهيئات الصلاة على حساب الخشوع والخضوع .
ثانيا: زوج مثالي
والشاب المتدين في بيته، وسط أهله وأسرته، يعرف حق والديه ولو كانا مشركين كما جاء في القرآن الكريم: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وهو مع زوجته، زوج مثالي، يستقطع من وقته لأسرته، وهو خير الناس لأهله، يحنو على زوجته، ويكرم نزلها، ويعفو عن أخطائها، يتجمل لها كما تتجمل له، ويتقي الله فيها، ولا ينسى فضلها، لا يظلمها إن أساءت ولا يدعها كالمعلقة لكراهية أو عبادة أو صوم، أو جلباً لمال من بلد آخر دون داع، ولا يترفع عن ممارسة بعض أعمال المنزل مع أسرته، إن أمكن ذلك فقد كان –صلى الله عليه وسلم- في حاجة أهله، يخصف نعله، ويرقع ثوبه.
الأب المتدين
والأب المتدين مع أولاده يلاعبهم صغاراً، ويؤدبهم أشبالاً، ويؤخيهم شباباً، يمنحهم من عاطفته، كما يمنحهم من ماله، وينفق قدر سعته عليهم، ويناي عن النزاع مع زوجته أمامهم، ويحذر من سوء الحديث إليهم، ويربيهم على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، والاعتماد على النفس، والقدرة على مواجهه المواقف، والايجابية تجاه الواقع، والحرص على أداء الحقوق والواجبات، مع البعد عن الابتذال والإسراف والخلاعة والميوعة، وتضييع الوقت فيما لا ينفع وهذا الزوج والأب المثالي ينطبق عليه حديث الرسول–صلى الله عليه وسلم-: "خيركم .. خيركم لأهله".
ثالثا: منتج ومتعاون في عمله
والمسلم المتدين يتهيأ لعمله، كما يتهيأ لصلاته، فيرى في عمله عبادة كصلاته وصومه، يبدأ عمله في موعده، حتى لو لم يتابعه أحد، لأن الله يراقبه، ويقوم بعمله بهمة ونشاط، ويبعد عن الروتين والبيروقراطية، فلا يقتصر على أداء ما يطلب، بل يقترح ويبتكر ويتفوق، وعلاقته مع زملائه أبعد ما تكون عن الوشاية، والحقد والحسد والغل والكذب، ولا يعرف الاحتكار أو الجشع، أو الغش والخداع، أو الرشوة إن كان تاجراً أو رجل أعمال، فالغاية عنده لا تبرر الوسيلة أما إذا كان موظفاً، فيقوم على أداء حوائج الجمهور بطيب خاطر ولا يعطلهم، يبتسم في وجوههم، فقد أخبرنا الرسول الكريم أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وهو لا ينافق المسئول أو رئيسه، ولا يبارك أخطاءه، ولا يزكي سوء الخلق، بل ينصح في أدب جم، ويقاوم التسلط والتجبر على نفسه أو على زملائه.
رابعاً: طبيب قلوب لأمراض مجتمعه
وعن سلوك الشاب المتدين في مجتمعه وأمته، إنه يعرف أولا أن لجيرانه حقا عليه، وجاء في الحديث الشريف: "مازال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه"، فالسلوك الطيب تجاه الجار أمر مطلوب، حتى ولو كان لا يصلي، أو يرتكب منكراً كشرب الخمر، بل إن هذا يوجب مزيداً من اهتمام المتدين بهذا الجار حتى ينقذه مما هو فيه، فالداعية "طبيب قلوب" عالج نفسه أولا، ثم أخذ في مداواة الناس، من كل ما يخالف تعليم الشرع، وهو يدعو غيره إلى الخير برفق ولين ورحمة وتودد {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ودون غلظة {لَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
والمتدين الداعية، الذي يدعو غيرة إلى التمسك بتعاليم الدين، لابد أن يراعي سنة الله في التدرج، وهو يحترم الأعراف التي لا تخالف الشرع، مثل الملابس وغيرها، ويحرص على موافقة الناس فيما ليس بمعصية.
المتدين على طريق الإسلام الصحيح، يحرص على هندامه، والاعتناء بملابسه دون إسراف أو خيلاء أو تكبر، فالرسول –صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن "الله جميل يحب الجمال".
والشاب المتدين يرى حق مجتمعه عليه، قبل أن يطالب بحقوقه، وينشر الخير، وينادي بالفضائل، ويحث على النظافة والعفة والطهر والنقاء، وهو دائما إيجابي تجاه مجتمعه، يتقدم بكل حل مفيد لمشاكل مجتمعه، وهو يسارع عند المغرم، ويعف عند المغنم، ويحترم كل الناس، فيوقر الكبير، ويحنو على الصغير، يحركه في كل ذلك إيمان عميق بالله، يصل إلى مرتبة الإحسان، فهو يتصرف في كل سلوكه بما يتطلبه دينه من أخلاقيات الإسلام، فمن الإساءة أن يعبد المسلم الله، ويخشع في صلاته، ثم يعامل الناس بأخلاقيات بعيدة عن تعاليم الدين .
لو توافرت للدعاة إلى الله والمتدينين، هذه الفضائل، وكان دعاة الإسلام، قدوة، لشقت الشريعة الإسلامية، طريقها إلى التطبيق العملي بسرعة، وفى يسر ودون صعوبة، فشريعتنا الغراء، نظام متكامل، وقبل أن تكون حدوداً تقام، فهي أولا طهارة قلب لمن تعلق بها، وأخلاق تنعكس على السلوك في المجتمع، وصدق الله العظيم وهو يخاطب رسوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.