وأما أخت الأخ فلا تحرم من النسب ولا من الرضاع وصورته أن يكون لك أخ من أب وأم وأخت من أم فيجوز لأخيك من الأب نكاح أختك من الأم وهي أخت أخيه وصورته من الرضاع امرأة أرضعتك وأرضعت صغيرة أجنبية منك يجوز لأخيك نكاحها وهي أختك.
وفي معنى هذا الحديث: حديث عائشة الذي بعده وهو قوله عليه السلام: «إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة» وهو:
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة».
3- وعنها قالت: إن أفلح- أخا أبي القعيس- استأذن علي بعدما أنزل الحجاب؟ فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته فقال: «ائذني له فإنه عمك تربت يمينك».
قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب.
وفي لفظ: استأذن علي أفلح فلم آذن له فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: كيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي قالت: فسألت رسول الله عليه وسلم فقال: «صدق أفلح ائذني له تربت يمينك».
أي افتقرت والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به.
4- وعنها رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: «يا عائشة من هذا؟» قلت: أخي من الرضاعة, فقال: «يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة».
«انظرن من إخوانكن» نوع من التعريض لخشية أن تكون رضاعة ذلك الشخص وقعت في حال الكبر.
وفيه دليل على أن كلمة إنما للحصر لأن المقصود حصر الرضاعة المحرمة في المجاعة لا مجرد إثبات الرضاعة في زمن المجاعة.
5- عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: فأعرض عني قال: فتنحيت فذكرت ذلك له قال: «كيف؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما».
من الناس من قال: إنه تقبل شهادة المرضعة وحدها في الرضاع أخذا بظاهر هذا الحديث ولابد فيه مع ذلك أيضا إذا أجريناه على ظاهره من قبول شهادة الأمة ومنهم من لم يقبل ذلك وحمل هذا الحديث على الورع ويشعر به قوله عليه السلام: «كيف وقد قيل؟» والورع في مثل هذا متأكد.
وعقبة بن الحرث هو أبو سروعة بكسر السين المهملة وسكون الراء وفتح الواو والعين المهملة والله أعلم.
6- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني من مكة- فتبعتهم ابنة حمزة تنادي: يا عم فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك فاحتملتها فاختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».
الحديث أصل في باب الحضانة وصريح في أن الخالة فيها كالأم عند عدم الأم وقوله عليه السلام: «الخالة بمنزلة الأم» سياق الحديث يدل على أنها بمنزلتها في الحضانة وقد يستدل بإطلاقه أصحاب التنزيل على تنزيلها منزلة الأم في الميراث إلا أن الأول أقوى فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم وهي قاعدة متعينة على الناظر وإن كانت ذات شغب على المناظر.
والذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الجماعة من الكلام المطيب لقلوبهم من حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
ولعلك تقول: أما ما ذكره لعلي وزيد فقد ظهرت مناسبته لأن حرمانهما من مرادهما مناسب لجبرهما بذكر ما يطيب قلوبهم وأما جعفر: فإنه حصل له مراده من أخذ الصبية فكيف ناسب ذلك جبره بما قيل له؟.
فيجاب عن ذلك بأن الصبية استحقتها الخالة والحكم بها لجعفر بسبب الخالة لا بسبب نفسه فهو في الحقيقة غير محكوم له بصفته فناسب ذلك جبره بما قيل له.
.كتاب القصاص:
1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة».
وهؤلاء الثلاثة مباحو الدم بالنص وقوله عليه السلام: «يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» كالتفسير لقوله: «مسلم» وكذلك: «المفارق للجماعة» كالتفسير لقوله: «التارك لدينه» والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل واختلف الفقهاء في المرأة هل تقتل بالردة أم لا؟ ومذهب أبي حنيفة لا تقتل ومذهب غيره تقتل.
وقد يؤخذ من قوله: «المفارق للجماعة» بمعنى المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول: مخالف الإجماع كافر وقد نسب ذلك لبعض الناس وليس ذلك بالهين وقد قدمنا الطريق في التفكير.
فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا وتارة لا يصحبها التواتر.
فالقسم الأول: يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع.
والقسم الثاني: لا يكفر به وقد وقع في هذا المكان من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالفة في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإجماع وأخذ من قوله من قال إنه لا يكفر مخالف الإجماع أن لا يكفر هذا المخالف في هذه المسألة وهذا كلام ساقط بالمرة إما عن عمى في البصيرة أو تعام لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة فيكفر المخالف بسبب مخالفته النقل المتواتر لا بسبب مخالفته الإجماع.
وقد استدل بهذا الحديث على أن تارك الصلاة لا يقتل بتركها فإن ترك الصلاة ليس من هذه الأسباب أعني زنا المحصن وقتل النفس والردة وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم إباحة الدم في هذه الثلاثة وبذلك استدل شيخ والدي الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي في أبياته التي نظمها في حكم تارك الصلاة أنشدنا الفقيه المفتي أبو موسى هارون بن عبد الله المهراني قديما قال: أنشدنا الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي لنفسه:
خسر الذي ترك الصلاة وخابا ** وأبى معادا صالحا ومآبا
إن كان يجحدها فحسبك أنه ** أمسى بربك كافرا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل ** غطى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له ** إن لم يتب حد الحسام عقابا
وأبو حنيفة قال: يترك مرة ** هملا ويحبس مرة إيجابا
والظاهر المشهور من أقواله ** تعزيزه زجرا له وعقابا
إلى أن قال:
والرأي عندي أن يؤدبه الإما ** م بكل تأديب يراه صوابا
ويكف عنه القتل طول حياته ** حتى يلاقي في المآب حسابا
فالأصل عصمته إلى أن يمتطي ** إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا
الكفر أو قتل المكافي عامدا ** أو محصن طلب الزنا فأصابا
فهذا من المنسوبين إلى اتباع مالك اختار خلاف مذهبه في ترك قتله وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني استشكل قتله في مذهب الشافعي أيضا.
وجاء بعض المتأخرين ممن أدركنا زمنه فأراد أن يزيل الإشكال فاستدل بقوله عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» ووجه الدلالة منه: أنه وقف العصمة على مجموع الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمرتب على أشياء لا يحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها.
وهذا إن قصد الاستدلال بالمنطوق وهو قوله عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى» الخ فإنه يقتضي بمنطوقه: الأمر بالقتال إلى هذه الغاية فقد وهل وسها لأنه فرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين ولا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة- إذا قوتل عليها- إباحة القتل عليها من الممتنع عن فعلها إذا لم يقاتل, ولا إشكال بأن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال عليها: أنهم يقاتلون إنما النظر والخلاف فيما إذا تركوا إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أم لا؟ فتأمل الفرق بين المقاتلة على الصلاة والقتل عليها وأنه لا يلزم من إباحة المقاتلة عليها إباحة القتل عليها.
وإن كان أخذ هذا من لفظ حديث آخر الحديث وهو ترتيب العصمة على فعل ذلك: فإنه يدل بمفهومه على أنها لا تترتب بفعل بعضه: هان الخطب لأنها دلالة مفهوم والخلاف فيها معروف مشهور وبعض من ينازعه في هذه المسألة لا يقول بدلالة المفهوم ولو قال بها فقد رجح عليها دلالة المنطوق في هذا الحديث.
2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء».
هذا تعظيم لأمر الدماء فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم وهي حقيقة بذلك فإن الذنوب تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه ثم يحتمل من حيث اللفظ أن تكون هذه الأولية مخصوصة بما يقع فيه الحكم بين الناس ويحتمل أن تكون عامة في أولية ما يقضى فيه مطلقا ومما يقوي الأول: ما جاء في الحديث: «إن أول ما يحاسب به العبد صلاته».
3- عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كبر كبر»- وهو أحدث لقوم- فسكت فتكلما فقال: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم» قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» قالوا: كيف بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده.
وفي حديث حماد بن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم, فيدفع برمته» قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قالوا: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟» قالوا: يا رسول الله قوم كفار, فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده.
وفي حديث سعيد بن عبيد: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فواده بمائة من إبل الصدقة).
فيه مسائل:
الأولى: حثمة بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة وحويصة بضم الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد مكسورة ومحيصة بضم الميم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد.
الثانية: هذا الحديث أصل في القسامة وأحكامها.
والقسامة بفتح القاف: هي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللوث وقيل: إنها في اللغة: اسم للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم وموضع جريان القسامة: أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله ولا تقوم عليه بينة ويدعي ولي القتيل قتله على واحد أو جماعة ويقترن بالحال: ما يشعر بصدق الولي على تفصيل في الشروط عند الفقهاء أو بعضهم ويقال له اللوث فيحلف على ما يدعيه.
الثالثة: قد ذكرنا اللوث ومعناه وفرع الفقهاء له صورا منها: وجدان القتيل في محلة أو قرية بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة ووصف بعضهم القرية ههنا: بأن تكون صغيرة واشترط أن لا يكون معهم ساكن من غيرهم لاحتمال أن القتل من غيرهم حينئذ.