.كتاب اللعان:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن فلان بن فلان, قال: يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وأخبرها: أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصادقين والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما ثم قال: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟- ثلاثا».
وفي لفظ: «لا سبيل لك عليها» قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت فهو أبعد لك منها».
اللعان لفظة مشتقة من اللعن سميت بذلك لما في اللفظ من ذكر اللعنة.
وقوله: (أرأيت لو أن أحدنا) يحتمل أن يكون سؤالا عن أمر لم يقع فيؤخذ منه: جوز مثل ذلك والاستعداد للوقائع بعلم أحكامها قبل أن تقع وعليه استمر عمل الفقهاء فيما فرعوه وقرروه من النازل قبل وقوعها وقد كان السلف من يكره الحديث في الشيء قبل أن يقع ويراه من ناحية التكلف.
وقول الراوي: فلما كان بعد ذلك: أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون السؤال عما لم يقع ثم وقع.
والثاني: أن يكون السؤال أولا عما وقع وتأخر الأمر في جوابه فبين ضرورته إلى معرفة الحكم.
والحديث يدل على أن سؤاله سبب نزول الآية وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لها عليه: لتعريف الحكم والعمل بمقتضاها وموعظة النبي صلى الله عليه وسلم: قد ذكر الفقهاء استحبابها عندما تريد المرأة أن تلفظ بالغضب وظاهر هذه الرواية: أنه لا يختص بالمرأة فإنه ذكره فيها وفي الرجل فلعل هذه موعظة عامة ولا شك أن الرجل متعرض للعذاب وهو حد القذف كما أن المرأة متعرضة للعذاب الذي هو الرجم إلا أن عذابها أشد.
وظاهر لفظ الحديث والكتاب العزيز: يقتضي تعيين لفظ الشهادة وذلك يقتضي أن لا تبدل بغيرها.
والحديث يقتضي أيضا: البداءة بالرجل وكذلك لفظ الكتاب العزيز لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] إن الدرء يقتضي وجوب سبب العذاب عليها وذلك بلعان الزوج واختصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها على تقدير وقوعه لما فه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به وذلك أمر عظيم يترتب عليه مفاسد كثيرة كانتشار المحرمية وثبوت الولاية على الإناث واستحقاق الأموال بالتوارث فلا جرم خصت بلفظة الغضب التي هي أشد من اللعنة ولذلك قالوا: لو أبدلت المرأة الغضب باللعنة: لم يكتف به أما لو أبدل الرجل اللعنة بالغضب: فقد اختلفوا فيه والأولى اتباع النص.
وفي الحديث: دليل على إجراء الأحكام على الظاهر وعرض التوبة على المذنبين وقد يؤخذ منه: أن الزوج لو رجع وأكذب نفسه: كان توبة ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى التوبة فيما بينهما وبين الله.
وقوله عليه السلام: «لا سبيل لك عليها» يمكن أن يؤخذ منه: وقوع التفريق بينهما باللعان لعموم قوله: «لا سبيل لك عليها» ويحتمل أن يكون «لا سبيل لك عليها» راجعا إلى المال.
وقوله: «إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها» دليل على استقرار المهر بالدخول وعلى استقرار مهر الملاعنة أما هذا: فبالنص وأما الأول: فبتعليله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «بما استحللت من فرجها» فيه دليل على أنه لا يستقر ولو أكذبت نفسها لوجود العلة المذكورة والله أعلم.
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا (كما قال الله تعالى) ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين.
هذه الرواية الثانية فيها زيادة نفي الولد وأنه يلتحق بالمرأة ويرثها بإرث البنوة منها, وتثبت أحكام البنوة بالنسبة إليها ومفهومه يقتضي انقطاع النسب إلى الأب مطلقا وقد ترددوا فيما لو كانت بنتا هل يحل للملاعن تزوجها؟.
وقوله: (فتلاعنا كما قال الله تعالى) ليس فيه ما يشعر بذكر نفي الولد في لعانه إلا بطريق الدلالة فإن كتاب الله يقتضي أن يشهد أنه لمن الصادقين وذلك راجع إلى ما ادعاه ودعواه قد اشتملت على نفي الولد.
وقوله: (فرق بين المتلاعنين) يقتضي أن اللعان موجب للفرقة ظاهرا.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسودا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك إبل؟», قال: نعم قال: «فما ألوانها؟» قال: حمر قال: «فهل يكون فيها من أورق؟», قال: إن فيها لورقا, قال: «فأنى أتاها ذلك؟» قال: عسى أن يكون نزعه عرق, قال: «وهذا عسى أن يكون نزعة عرق».
فيه ما يشعر بأن التعريض بنفي الولد لا يوجب حدا كما قيل وفيه نظر لأنه جاء على سبيل الاستفتاء والضرورة داعية إلى ذكره وإلى عدم ترتب الحد أو التعزير على المستفتين.
وفيه دليل على أن المخالفة في اللون بين الأب والابن- بالبياض والسواد- لا تبيح الانتفاء وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكم والتعليل وأجاز بعضهم في السواد الشديد مع البياض الشديد والورقة لون يميل إلى الغبرة كلون الرماد يسمى أورق والجمع ورق بضم الواو وسكون الراء.
واستدل به الأصوليون على العمل بالقياس فإن النبي صلى الله عليه وسلم حصل منه التشبيه لولد هذا الرجل المخالف للونه بولد الإبل المخالف لألوانها وذكر العلة الجامعة وهي نزع العرق إلا أنه تشبيه في أمر وجودي والذي حصلت المنازعة فيه: هو التشبيه في الأحكام الشرعية.
4- عن عائشة رضي الله عنها قال: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: «هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة» فلم ير سودة قط.
يقال زمعة بإسكان الميم وهو الأكثر ويقال زمعة بفتح الميم أيضا.
والحديث أصل في إلحاق الولد صاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرم وقد استدل به بعض المالكية على قاعدة من قواعدهم وأصل من أصول المذهب وهو الحكم بين حكمين وذلك أن يكون الفرع يأخذ مشابهة من أصول متعددة: فيعطى أحكاما مختلفة ولا يمحض لأحد الأصول.
وبيانه من الحديث: أن الفراش مقتض لإلحاقه بزمعة والشبه البين مقتض لإلحاقه بعتبة فأعطي النسب بمقتضى الفراش وألحق بزمعة وروعي أمر الشبه بأمر سودة بالاحتجاب منه فأعطي الفرع حكما بين حكمين فلم يمحض أمر الفراش فتثبت المحرمية بينه وبين سودة ولا روعي أمر الشبه مطلقا فيلتحق بعتبة.
قالوا: وهذه أولى التقديرات فإن الفرع إذا دار بين أصلين فألحق بأحدهما مطلقا فقد أبطل شبهه الثاني من وكل وجه وكذلك إذا فعل بالثاني ومحض إلحاقه به: كان إبطالا لحكم شبهه بالأول فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه: كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه.
ويعترض على هذا بأن صورة النزاع: ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين يقتضي الشرع إلحاقه بكل واحد منهما من حيث النظر إليه وهاهنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش والشبه هاهنا غير مقتض للإلحاق شرعا فيحمل قوله: «واحتجبي منه يا سودة» على سبيل الاحتياط والإرشاد إلى مصلحة وجودية لا على سبيل بيان حكم شرعي ويؤكده: أنا لو وجدنا شبها في ولد لغير صاحب الفراش لم يثبت لذلك حكما وليس في الاحتجاب هاهنا إلا ترك أمر مباح على تقدير ثبوت المحرمية وهو قريب.