.كتاب النكاح:
.مدخل:
1- عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغرض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
الباءة: النكاح مشتق من اللفظ الذي يدل على الإقامة والنزول والباءة المنزل فلما كان الزوج ينزل بزوجته: سمى النكاح باءة لمجاز الملازمة واستطاعة النكاح: القدرة على مؤنة المهر والنفقة.
وفيه دليل على أنه لا يؤمر به إلا القادر على ذلك وقد قالوا: من لم يقدر عليه فالنكاح مكروه في حقه وصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب.
وقد قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة أعني الوجوب: والندب والتحريم والكراهة والإباحة وجعل الوجوب فيما إذا خالف العنب وقدر على النكاح إلا أنه لا يتعين واجبا بل إما هو وإما التسري فإن تعذر التسري تعين النكاح حينئذ للوجوب لا لأصل الشرعية.
وقد يتعلق بهذه الصيغة من يرى أن النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وقوله عليه السلام: «فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» يحتمل أمرين:
أحدهما: أن تكون أفعل فيه مما استعمل لغير المبالغة.
والثاني: أن تكون على بابها فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج وفي معارضتها: الشهوة والداعي إلى النكاح وبعد النكاح: يضعف هذا المعارض فيكون أغض للبصر وأحصن للفرج مما إذا لم يكن فإن وقوع الفعل- مع ضعف الداعي إلى وقوعه- أندر من وقوعه مع وجود الداعي والحوالة على الصوم لما فيه كسر الشهوة فإن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوتها وتضعف بضعفها.
وقد قيل في قوله: «فعليه بالصوم» بأنه إغراء للغائب وقد منعه قوم من أهل العربية والوجاء الخصاء وجعل وجاء: نظرا إلى المعنى فإن الوجاء قاطع للفعل وعدم الشهوة قاطع له أيضا وهو من مجاز المشابهة.
وإخراج الحديث لمخاطبة الشباب: بناء على الغالب لأن أسباب قوة الداعي إلى النكاح فيه موجودة بخلاف الشيوخ والمعنى معتبر إذا وجد في الكهول والشيوخ أيضا.
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بال أقوام قالوا كذا؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وافطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».
يستدل به من يرجح النكاح على التخلي لنوافل العبادات فإن هؤلاء القوم قصدوا هذا القصد والنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم وأكد ذلك بأن خلافه: رغبة عن السنة ويحتمل أن تكون هذه الكراهة للتنطع والغلو في الدين وقد يختلف ذلك باختلاف المقاصد فإن من ترك اللحم- مثلا- يختلف في حكمه بالنسبة إلى مقصوده فإن كل من باب الغلو والتنطع والدخول في الرهبانية: فهو ممنوع مخالفة للشرع وإن كان لغير ذلك من المقاصد المحمودة كمن تركه تورعا لقيام شبهة في ذلك الوقت في اللحوم أو عجزا أو لمقصود صحيح غير ما تقدم: لم يكن ممنوعا.
وظاهر الحديث: ما ذكرناه من تقديم النكاح كما يقوله أبو حنيفة ولا شك أن الترجيح يتبع المصالح ومقاديرها مختلفة وصاحب الشرع أعلم بتلك المقادير فإذا لم يعلم المكلفة حقيقة تلك المصالح ولم يستحضر أعدادها: فالأولى اتباع اللفظ الوارد في الشرع.
3- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا).
التبتل: ترك النكاح ومنه قيل لمريم عليها السلام البتول وحديث سعد أيضا من هذا الباب لأن عثمان بن مظعون ممن قصد التبتل والتخلي للعبادة مما هو داخل في باب التنطع والتشبه بالرهبانية إلا أن ظاهر الحديث: يقتضي تعليق الحكم بمسمى التبتل وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فلابد أن يكون هذا المأمور.
به في الآية غير المردود في الحديث ليحصل الجمع وكأن ذلك: إشارة إلى ملازمة التعبد أو كثرته لدلالة السياق عليه من الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن والذكر فهذه إشارة إلى كثرة العبادات ولم يقصد معها ترك النكاح ولا أمر به بل كان النكاح موجودا مع هذا الأمر ويكون ذلك التبتل المردود: ما انضم إليه مع ذلك- من الغلو في الدين وتجنب النكاح وغيره مما يدخل في باب التشديد على النفس بالإجحاف بها ويؤخذ من هذا: منع ما هو داخل في هذا الباب وشبهه مما قد يفعله جماعة من المتزهدين.
4- عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي ابنة أبي سفيان, قال: «أو تحبين ذلك؟», فقلت: نعم, لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك لا يحل لي», قالت: إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال: «بنت أم سلمة؟» قالت: قلت: نعم, قال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن».
قال عروة وثويبة: مولاة أبي لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر خيبة فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقي ثويبة.
الخيبة: الحالة بكسر الخاء.
الجمع بين الأختين وتحريم نكاح الربيبة: منصوص عليه في كتاب الله تعالى ويحتمل أن تكون هذه المرأة السائلة لنكاح أختها: لم يبلغها أمر هذا الحكم وهو أقرب من نكاح الربيبة فإن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بتقدم نزول الآية حيث قال: «لو لم تكن ربيبتي في حجري» وتحريم الجمع بين الأختين في النكاح متفق عليه فأما بملك اليمين: فكذلك عند علماء الأمصار وعن بعض الناس: فيه خلاف ووقع الاتفاق بعده على خلاف ذلك من أهل السنة غير أن الجمع في ملك اليمين: إنما هو في استباحة وطئها إذ الجمع في ملك اليمين: غير ممتنع اتفاقا وقال الفقهاء: إذا وطئ إحدى الأختين لم يطأ الأخرى حتى يحرم الأولى ببيع أو عتق أو كتابة أو تزويج لئلا يكون مستبيحا لفرجيهما معا.
وقولها: (لست لك بمخلية) مضموم الميم ساكن الخاء المعجمة مكسور اللام معناه: لست أخلي بغير بغير ضرة.
وقولها: (وأحب من شاركني) وفي رواية: «شركني» بفتح الشين وكسر الراء وأرادت بالخير ههنا: ما يتعلق بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من مصالح الدنيا والآخرة وأختها: اسما عزة بفتح العين وتشديد الزاي المعجمة.
وقولها: (إنا كنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة) هذه يقال لها درة بضم الدال المهملة وتشديد الراء المهملة أيضا ومن قال فيه درة بفتح الذال المعجمة فقد صحف.
وقد يقع من هذه المحاورة في النفس: أنها إنما سألت نكاح أختها لاعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإباحة هذا النكاح لا لعدم علمها بما دلت عليه الآية وذلك: أنه إذا كان سبب اعتقادها التحليل: اعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب ذلك: أن تعترض بنكاح درة بنت أبي سلمة فكأنها تقول: كما جاز نكاح درة- مع تناول الآية لها- جاز الجمع بين الأختين للاجتماع في الخصوصية أما إذا لم تكن عالمة بمقتضى الآية: فلا يلزم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريم نكاح الأخت على الأخت أن يرد على ذلك تجويز نكاح الربيبة لزوما ظاهرا لأنهما إنما يشتركان حينئذ في أمر أعم أما إذا كانت عالمة بمدلول الآية: فيكون اشتراكهما في أمر خاص وهو التحريم العام واعتقاد التحليل الخاص.
وقوله عليه السلام: «بنت أم سلمة؟» يحتمل أن يكون للاستثبات ونفي الاشتراك ويحتمل أن يكون لإظهار جهة الإنكار عليها أو على من قال ذلك.
وقوله عليه السلام: «لو لم تكن ربيبتي في حجري».
والربيبة بنت الزوجة مشتقة من الرب وهو الإصلاح لأنه يربها ويقوم بأمورها وإصلاح حالها ومن ظن من الفقهاء: أنه مشتق من التربية فقد غلط لأن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية والاشتراط مفقود فإن آخر رب باء موحدة وآخر ربي ياء مثناه من تحت والحجر بالفتح أفصح ويجوز بالكسر.
وقد يحتج بهذا الحديث من يرى اختصاص تحريم الربيبة بكونها في الحجر وهو الظاهري وجمهور الفقهاء على التحريم مطلقا وحملوا التخصيص على أنه خرج مخرج الغالب وقالوا: ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له وعندي نظر في أن الجواب المذكور في الآية فيه- أنه خرج مخرج الغالب: هل يرد في لفظ الحديث أو لا؟.
وفي الحديث دليل على أن تحريم الجمع بين الأختين شامل للجمع على صفة الاجتماع في عقد واحد وعلى صفة الترتيب.
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».
جمهور الأمة على تحريم هذا الجمع أيضا وهو مما أخذ من السنة وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]- الآية إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصوا ذلك العموم بهذا الحديث وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد.
وظاهر الحديث يقتضي التسوية بين الجمع بينهما على صفة المعية والجمع على صفة الترتيب وإذا كان النهي واردا على مسمى الجمع- وهو محمول على الفساد- فيقتضي ذلك: أنه إذا أراد نكحهما معا فنكاحهما باطل لأن هذا عقد حصل فيه الجمع المنهي عنه فيفسد وإن حصل الترتيب في العقدين فالثاني: هو الباطل لأن مسمى الجمع قد حصل به وقد وقع في بعض الروايات لهذا الحديث: «لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى» وذلك مصرح بتحريم جمع الترتيب.
والعلة في هذا النهي ما يقع بسبب المضارة من التباغض والتنافر فيقضي ذلك إلى قطيعة الرحم وقد ورد الإشعار بهذا التعليل.
6- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج».
ذهب قوم إلى ظاهر الحديث وألزموا الوفاء بالشروط وإن لم تكن من مقتضى العقد كأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يخرجها من البلد لظاهر الحديث وذهب غيرهم: إلى أنه لا يجب الوفاء بمثل هذه الشروط التي لا يقتضيها العقد فإن وقع شيء منها فالنكاح صحيح والشرط باطل والواجب مهر المثل وربما حمل بعضهم الحديث على شروط يقتضيها العقد مثل: أن يقسم لها وأن ينفق عليها ويوفيها حقها أو يحسن عشرتها ومثل: أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه ونحو ذلك مما هو من مقتضيات العقد.