.باب ما يجوز قتله:
1- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور».
ولمسلم: «يقتل خمس فواسق في الحل والحرم».
فيه مباحث:
الأول: المشهور في الرواية: «خمس» بالتنوين «فواسق» ويجوز «خمس فواسق» بالإضافة من غير تنوين وهذه الرواية التي ذكرها المصنف تدل على صحة المشهور فإنه أخبر عن خمس بقوله: «كلهن فواسق» وذلك يقتضي أن ينون: «خمس» فيكون فواسق خبرا وبين التنوين والإضافة في هذا فرق دقيق في المعنى وذلك أن الإضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها وبطريق المفهوم وأما مع التنوين فإنه يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك- وهو القتل- معلل بما جعل وصفا وهو الفسق فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص.
الثاني: الجمهور على جواز قتل هذه المذكورة في الحديث والحديث دليل على ذلك وعن بعض المتقدمين أن الغراب يرمى ولا يقتل.
الثالث: اختلفوا في الاقتصار على هذه الخمسة أو التعدية لما هو أكثر منها بالمعنى فقيل: بالاقتصار عليها وهو المذكور في كتب الحنفية ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة: أنا أبا حنيفة ألحق الذئب بها وعدوا ذلك من مناقضاته والذين قالوا بالتعدية اختلفوا في المعنى الذي به التعدية فنقل عن بعض الشارحين: أن الشافعي قال: المعنى في جواز قتلهن: كونهن مما لا يؤكل فكل ما لا يؤكل قتله جائز للمحرم ولا فدية عليه وقال مالك المعنى فيه كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا فلا.
وهذا عندي فيه نظر فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد وإنما يرى الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل مما ليس فيه ضرر: فغير هذا ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه: أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر ومنا في معناهما من بقية السباع العادية والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس وهو الذي الأذى الطبيعي والعدوان المركب في هذه الحيوانات والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدى القائسون إلى كل ما وجد فيه المعنى ذلك الحكم كما في الأشياء الستة التي في الربا وقد وافقه أبو حنيفة على التعدية فيها وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي يعدى به.
وأقول: المذكور ثم: هو تعليق الحكم بالألقاب وهو لا يقتضي مفهوما عند الجمهور فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ والمذكور هاهنا مفهوم عدد وقد قال به جماعة فيكون اللفظ مقتضيا للتخصيص وإلا بطلت فائدة التخصيص بالعدد وعلى هذا المعنى عول بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالخمس المذكورات- أعني مفهوم العدد- وذكر غير ذلك مع هذا أيضا.
واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل إلى كل مؤذ: قوي بالإضافة إلى تصرف القائسين فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد وأما التعليل بحرمة الأكل: ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق لأن مقتضى العلة: أن يتقيد الحكم بها وجودا وعدما فإن لم يتقيد وثبت الحكم حيث تعدم: بطل تأثيراها بخصوصها في الحكم حيث ثبت الحكم مع انتفائها وذلك بخلاص ما دل عليه النص من التعليل بها.
البحث الرابع: القائلون بالتخصيص بالخمسة المذكورة وما جاء معها في حديث آخر- من ذكر الحية- وفوا بمقتضى العدد والقائلون بالتعدية إلى غيرها يحتاجون إلى ذكر السبب في تخصيص المذكورات بالذكر وقال من علل بالأذى: إنما خصت بالذكر لينبه بها على ما في معناها وأنواع الأذى مختلف فيها فيكون ذكر كل نوع منها منبها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع فنبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع كالبرغوث مثلا عند بعضهم ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض كابن عرس ونبه بالغراب والحدأة على ما أذاه بالاختطاف كالصقر والباز ونبه بالكلب على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه كالأسد والفهد والنمر.
وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل: فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمسة على الغالب فإنها الملابسات للناس والمخالطات في الدور بحيث يعم أذاها فكان ذلك سببا للتخصيص والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عرف في الأصول إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضا عليهم في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية.
وتقريره: أن إلحاق المسكوت بالمنطوق قياسا شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر فلا إلحاق ولما كانت هذه الأشياء عامة الأذى- كما ذكرتم- ناسب أن يكون ذلك سببا لإباحة قتلها لعموم ضررها وهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل فلا تدعوا الحاجة إلى إباحة قتله كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات فلا يلحق به.
وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:
أحدهما: أن الكلب العقور نادر وقد أبيح قتله.
والثاني: معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر ألا ترى أن تأثير الفأرة بالنقب- مثلا- والحدأة بخطف شيء يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس؟ فكان إباحة القتل أول.
البحث الخامس: اختلفوا في الكلب العقور فقيل: هو الإنسي المتخذ وقيل: هو كل ما يعدو كالأسد والنمر واستدل هؤلاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب: «بأن يسلط الله عليه كلبا من كلابه افترسه السبع» فدل على تسميته بالكلب ويرجح الأولون قولهم: بأن إطلاق اسم الكلب على غير الإنسي المتخذ: خلاف العرف واللفظة إذا نقلها أهل العرف إلى معنى كان حملها عليه أولى من حملها على المعنى اللغوي.
البحث السادس: اختلفوا في صغار هذه الأشياء وهي عند المالكية منقسمة فأما صغار الغراب والحدأة: ففي قتلهما قولان لهم والمشهور: القتل ودليلهم عموم الحديث في قوله: «الغراب والحدأة» وأما من منع القتل للصغار: فاعتبر الصفة التي علل بها القتل وهي الفسق على ما شهد به إيماء اللفظ وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة والحكم يزول بزوال علته وأما صغار الكلاب ففيها قولان لهم أيضا وأما صغار غير ذلك من المستثنيات المذكورة في الحديث: فتقتل وظاهر اللفظ والإطلاق: يقتضي أن تدخل الصغار لانطلاق لفظ: «الغراب والحدأة» وغيرهما عليها وأما الكلب العقور: فإنه أبيح قتله بصفة تتقيد الإباحية بها ليست موجودة في الصغير ولا هي معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء بخلاف غيره فإنه عند الكبر ينتهي بطبعه إلى الأذى قطعا.
البحث السابع: استدل به على أنه يقتل في الحرم من لجأ إلى الحرم بعد قتله لغيره مثلا على ما هو مذهب الشافعي وعلل ذلك بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم: معلل بالفسق والعدوان فيعم الحكم بعموم العلة والقاتل عدوانا فاسق بعدوانه فتوجد العلة في قتله فيقتل بالأولى لأنه مكلف وهذه الفواسق فسقها طبعي ولا تكليف عليها والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه وهذا عندي ليس بالهين وفيه غور فليتنبه له والله أعلم.
.باب دخول مكة وغيرها:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: «اقتلوه».
ثبت من قول ابن شهاب في رواية مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرما ذلك اليوم) وظاهر كون المغفر على رأسه يقتضي ذلك ولكنه محتمل أن يكون لعذر وأخذ من هذا: أن المريد لدخول مكة إذا كان محاربا يباح له دخولها بغير إحرام لحاجة المحارب إلى التستر بما يقيه وقع السلاح.
وابن خطل بفتح الخاء والطاء: اسمه عبد العزى وإباحة النبي صلى الله عليه وسلم لقتله قد يتسم به في مسألة إباحة قتل الملتجئ إلى الحرم.
ويجاب عنه بأن ذلك محمول على الخصوصية التي دل عليها قوله عليه السلام: «ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار».
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى».
كداء بفتح الكاف والمد والثنية السفلى المعروف فيها كدا بضم الكاف والقصر وثم موضع آخر يقال له كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء وليس هو السفلى على المعروف والثنية طريق بين الجبلين والمشهور: استحباب الدخول من كداء وإن لم تكن طريق الداخل إلى مكة فيعرج إليها وقيل: إنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم منها لأنها على طريقه فلا يستحب لمن ليست على طريقه وفيه نظر.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا: كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين.
فيه أمران:
أحدهما: قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قدمناه وفيه جواز الصلاة في الكعبة وقد اختلف في ذلك ومالك فرق بين الفرض والنفل فكره الفرض أو منعه وخفف في النفل لأنه مظنة التخفيف في الشروط.
وفي الحديث: دليل أيضا على جواز الصلاة بين الأساطين والأعمدة وإن كان يحتمل أن يكون صلى في الجهة التي بينهما وإن لم يكن في مسامتتهما حقيقة وقد وردت في ذلك كراهة فإن لم يصح سندها قدم هذا الحديث وعمل بحقيقة قوله: (بين العمودين) وإن صح سندها: أول بما ذكرناه: أنه صلى في سمت ما بينهما وإن كانت آثارا فقط: قدم المسند عليها.
4- عن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
فيه دليل على استحباب تقبيل الحجر الأسود وقول عمر هذا الكلام في ابتداء تقبيله: ليبين أنه فعل ذلك اتباعا وليزيل بذلك الوهم الذي كان ترتب في أذهان الناس في أيام الجاهلة ويحقق عدم الانتفاع بالأحجار من حيث هي هي كما كانت الجاهلية تعتقد في الأصنام.
5- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها: إلا الإبقاء عليهم).