الاعتكاف: الاحتباس واللزوم لشيء كيف كان وفي الشرع لزوم المسجد على وجه مخصوص والكلام فيه كالكلام في سائر الأسماء الشرعية.
وحديث عائشة فيه استحباب مطلق الاعتكاف واستحبابه في رمضان بخصوصه وفي العشر الأواخر بخصوصها وفيه تأكيد هذا الاستحباب بما أشعر به اللفظ من المداومة وبما صرح به في الرواية الأخرى من قولها: «في كل رمضان» وبما دل عليه من عمل أزواجه من بعده وفيه دليل على استواء الرجل والمرأة في هذا الحكم.
وقولها: «فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه» الجمهور على أنه إذا أراد اعتكاف العشر دخل معتكفه قبل غروب الشمس والدخول في أول ليلة منه وهذا الحديث قد يقتضي الدخول في أول النهار وغيره أقوى منه في هذه الدلالة ولكنه أول على أن الاعتكاف كان موجودا وأن دخوله في هذا الوقت لمعتكفه للانفراد عن الناس بعد الاجتماع بهم في الصلاة إلا أنه كان ابتداء دخول المعتكف ويكون المراد بالمعتكف هاهنا الموضع الذي خصه بذلك أو أعده له كما جاء: «أنه اعتكف في قبلة» وكما جاء أن أزوجه ضر بن أخبية ويشعر بذلك م في هذه الرواية: «دخل مكانه الذي اعتكف فيه» بلفظ الماضي.
وقد يستدل بهذه الأحاديث على أن المسجد شرط في الاعتكاف من حيث أنه قصد لذلك وفيه مخالفة العادة في الاختلاط بالناس لاسيما النساء فلو جاز الاعتكاف في البيوت لما خالف المقتضي لعدم الاختلاط بالناس في المسجد وتحمل المشقة في الخروج لعوارض الخلقة وإيجاز بعض الفقهاء أن للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو الموضع الذي أعدته للصلاة وهيأته لذلك وقيل: أن بعضهم ألحق بها الرجل في ذلك.
2- عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه).
وفي رواية: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان».
وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كنت لأدخل البيت لحاجة والمريض فيها فما أسأل عنه إلا وأنا مارة).
الترجيل: تسريح الشعر.
فيه دليل على طهارة بدن الحائض وفيه دليل على أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يبطل اعتكافه وأخذ منه بعض الفقهاء أن خروج بعض البدن من المكان الذي حلف الإنسان على أن لا يخرج منه لا يوجب حنثه وكذلك دخول بعض بدنه إذا حلف أن لا يدخله من حيث أن امتناع الخروج من المسجد يوازن تعلق الحنث بالخروج لأن الحكم في كل واحد منهما متعلق بعدم الخروج فخروج بعض البدن إن اقتضى مخالفة ما علق عليه الحكم في أحد الموضعين اقتضى مخالفته في الآخر وحيث لم يقتض في أحدهما لم يقتض في الآخر لاتحاد المأخذ فيهما وكذلك تنقل هذه المادة في الدخول أيضا بأن تقول لو كان دخول البعض مقتضيا للحكم المعلق بدخول الكل لكان خروج البعض مقتضيا لحكم المعلق بخروج الجملة لكنه لا يقتضيها ثم فلا يقتضيه هنا وبيان الملازمة أن الحكم في الموضعين معلق بالجملة فإما أن يكون البعض موجبا لترتيب الحكم على الكل أو لا الخ.
وقولها: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» كناية عما يضطر إليه من الحدث ولا شك في أن الخروج له غير مبطل للاعتكاف لأن الضرورة داعية إليه والمسجد مانع منه وكل ما ذكره الفقهاء أنه لا يخرج إليه أو اختلفوا في جواز الخروج إليه فهذا الحديث يدل على عدم الخروج إليه لعمومه فإذا ضم إلى ذل قرينة الحاجة إلى الخروج لكثير منه أو قيام الداعي الشرعي في بعضه كعيادة المريض وصلاة الجنازة وشبهه قويت الدلالة على المنع وفي الرواية الأخرى عن عائشة جواز عيادة المريض على وجه المرور من غير تعريج وفي لفظها إشعار بعدم عيادته على غير هذا الوجه.
3- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة- وفي رواية- يوما في المسجد الحرام قال: «فأوف بنذرك» ولم يذكر بعض الرواة يوما ولا ليلة.
في الحديث فوائد:
أحدها: لزوم النذر للقربة وقد يستدل بعمومه من يقول بلزوم الوفاء بكل منذور.
وثانيهما: يستدل به من يرى صحة النذر من الكافر وهو قول أو وجه في مذهب الشافعي والأشهر أنه لا يصح لأن النذر قربة والكافر ليس من أهل القرب ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤول الحديث بأنه أمر بأن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر لئلا يخل بعبادة نوى فعلها فأطلق عليه أنه منذور لشبهه بالمنذور وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة وعلى هذا إما أن يكون قوله: «أوف بنذرك» من مجاز الحدث أو من مجاز التشبيه وظاهر الحديث خلافه فإن دل دليل أقوى من هذا الظاهر على أنه لا يصح التزام الكافر الاعتكاف احتيج إلى هذا التأويل وإلا فلا.
وثالثها: استدل به على أن الصوم ليس بشرط لأن الليل ليس محلا للصوم وقد أمر بالوفاء بنذر الاعتكاف فيه وعدم اشتراط الصوم هو مذهب الشافعي واشتراطه مذهب مالك وأبي حنيفة وقد أول من اشترط الصوم قوله ليلة بيوم فإن الليلة تغلب في لسان العرب على اليوم حكي عنهم أنهم قالوا صمنا خمسا والخمس يطلق على الليالي فإنه لو أطلق على الأيام لقيل خمسة وأطلقت الليالي وأريدت الأيام أو يقال: المراد ليلة بيومها ويدل على ذلك أنه ورد بعض الروايات بلفظ: «اليوم».
4- عن صفية بن حيي رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما فإنها صفية بنت حيي», فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا- أو قال- شيئا».
وفي رواية: «أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة» ثم ذكره بمعناه.
صفية بنت حيي بن أخطب من شعب بني إسرائيل من سبط هارون عليه السلام نضيرية كانت عند سلام بتخفيف اللام ابن مشكم ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق فقيل يوم خيبر وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة وتوفيت في رمضان في زمن معاوية سنة خمسين من الهجرة.
والحديث يدل على جواز زيارة المرأة المعتكف وجواز التحدث معه وفيه تأنيس الزائر بالمشي معه لاسيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك كالليل وقد تبين بالرواية الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى معها إلى باب المسجد فقط.
وفية دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إلية مما لا ينبغي وقد قال بعض العلماء إنه لو وقع ببالهما شيء لكفرا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تعليم أمته وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك تسبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم وقد قالوا إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه.
إذا خفي عليه وهو من باب نفي التهمه بالنسبة إلى الجور في الحكم.
وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ولقوله عليه السلام في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أن يتكلم بها: «ذلك محض الإيمان» وقد فسروه بأن التعاظم لذلك محض الإيمان لا الوسوسة كيفما كانت ففيه دليل على أن تلك الوسوسة لا يؤاخذ بها نعم في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها وبين ما يقع شكا إشكال والله أعلم.
.كتاب الحج:
1- باب المواقيت:
1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لاهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم. هن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة».
الحج- بفتح الحاء وكسرها القصد في اللغة وفي الشرع قصد مخصوص إلى محل مخصوص على وجه مخصوص.
وقوله: «وقت» قيل أن التوقيت في الأصل ذكر الوقت والصواب أن يقال: تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقا لأن التوقيت تحديد بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت.
وقوله هاهنا وقت يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للحرام ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحج أو العمرة ومعنى توقيت هذه الأماكن للإحرام أنه لا يجوز مجاوزتها لمريد الحج أو العمرة إلا محرما وإن لم يكن في لفظة وقت من حيث هي هي تصريح بالوجوب فقد ورد في غير هذه الرواية: «يهل أهل المدينة» وهي صيغة خبر يراد به الأمر وورد أيضا في بعض الروايات لفظة الأمر.
وفي ذكر هذه المواقيت مسائل:
الأولى: إن توقيتها متفق عليه لأرباب هذه الأماكن وإما إيجاب الدم لمجاوزتها عند الجمهور فمن غير هذا الحديث ونقل عن بعضهم أن مجاوزها لا يصح حجه وله إلمام بهذا الحديث من وجه وكأنه يحتاج إلى مقدمة أخرى من حيث آخر أو غيره.
الثانية: ذو الحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام أبعد المواقيت من مكة وهي على عشر مراحل أو تسع منها والجحفة بضم الجيم وسكون الحاء قيل: سميت بذلك لأن السيل اجتحفها في بعض الزمان وهي على ثلاث مراحل من مكة ويقال لها مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء وقيل بكسر الهاء وقرن المنازل بفتح القاف وسكون الراء وصاحب الصحاح ذكر فتح الراء وغلظ في ذلك كما غلظ في أن أويسا القرني منسوب إليها وإنما هو منسوب إلى قرن بفتح القاف والراء بطن من مراد كما بين في الحديث الذي فيه ذكر طلب عمر له ويلملم بفتح الياء واللام وسكون الميم بعدها ويقال فيه ألمم قيل: هي على مرحلتين من مكة وكذلك قرن على مرحلتين أيضا.
الثالثة: الضمير في قوله: «هن» لهذه المواقيت «لهن» أي لهذه الأماكن: المدينة والشام ونجد واليمن وجعلت هذه المواقيت لها والمراد أهلها والأصل أن يقال: هن لهم لأن المراد الأهل وقد ورد ذلك في بعض الروايات على الأصل.
الرابعة: قوله: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» يقتضي أنه إذا مر بهن من ليس بميقاته أحرم منهن ولم يجاوزهن غير محرم ومثل ذلك بأهل الشام يمر أحدهم بذي الحليفة فيلزمه الإحرام منها ولا يتجاوزها إلى الجحفة التي هي ميقاته وهو مذهب الشافعي وذكر بعض المصنفين: أنه لا خلاف فيه وليس كذلك لأن المالكية نصوا على أن له أن يتجاوز إلى الجحفة قالوا: والأفضل إحرامه منها أي من ذي الحليفة ولعله أن يحمل الكلام على أنه لا خلاف فيه في مذهب الشافعي وإن كان قد أطلق الحكم ولم تضفه إلى مذهب أحد وحكى أن لا خلاف وهذا أيضا محل نظر فإن قوله: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» عام فيمن أتى يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن ليس ميقاته بين يديها.
وقوله ولأهل الشام الجحفة عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولا فإذا قلنا بالعموم الأول دخل تحته الشامي الذي مر بذي الحليفة فيلزم أن يحرم منها وإذا عملنا بالعموم الثاني وهو أن لأهل الشام الجحفة دخل تحته هذا المار أيضا بذي الحليفة فيكون له التجاوز إليها فلكل واحد منها عموم من وجه فكما يحتمل أن يقال ولمن أتى عليهن من غير أهلهن مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه يحتمل أن يقال ولأهل الشام الجحفة مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت.
الخامسة: قوله: «ممن أراد الحج والعمرة» يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام وله تجاوزها غير محرم.
السادسة: استدل بقوله: «ممن أراد الحج والعمرة» على أنه لا يلزمه الإحرام بمجرد دخول.
مكة وهو أحد قولي الشافعي من حيث أن من لم يرد الحج أو العمرة لا يلزمه الإحرام فيدخل تحته من يريد دخول مكة لغير الحج أو العمرة وهذا أولا يتعلق بأن المفهوم له عموم من حيث إن مفهومه: أن من لا يريد الحج أو العمرة لا يلزمه الإحرام من حيث المواقيت وهو عام يدخل تحته من لا يريد الحج أو العمرة ولا دخول مكة ومن لا يريد الحج والعمرة ويريد دخول مكة وفي عموم المفهوم نظر في الأصول وعلى تقدير أن يكون له عموم فإذا دل دليل على وجوب الإحرام لدخول مكة وكان ظاهر الدلالة لفظا قدم على هذا المفهوم لأن المقصود بالكلام: حكم الإحرام بالنسبة إلى هذه الأماكن ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة والعموم إذا لم يقصد فدلالته ليست بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ والذي يقتضيه اللفظ على تقدير تسليم العموم وتناوله لمن يريد مكة لغير الحج أو العمرة أنه لا يجب عليه الإحرام من المواقيت ولا يلزم من عدم هذا الوجوب عدم وجوب الإحرام لدخول مكة.
السابعة: استدل به على أن الحج ليس على الفور لأن من مر بهذه المواقيت لا يريد الحج والعمرة يدخل تحته من لم يحج فيقتضي اللفظ أنه لا يلزمه الإحرام من حيث المفهوم فلو وجب على الفور للزمه أراد الحج أو لم يرده وفيه من الكلام ما في المسالة قبلها.
الثامنة: قوله: «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» يقتضي أن من منزله دون الميقات إذا أنشأ السفر للحج أو العمرة فميقاته منزله ولا يلزمه المسير إلى الميقات المنصوص عليه من هذه المواقيت.
التاسعة: يقتضي أن أهل مكة يحرمون منها وهو مخصوص بالإحرام للحج فإن من أحرم بالعمرة ممن هو في مكة يحرم من أدنى الحل ويقتضي الحديث أن الإحرام من مكة نفسها وبعض الشافعية يرى أن الإحرام من الحرم كله جائز والحديث على خلافه ظاهرا ويدخل في أهل مكة من بمكة ممن ليس من أهلها.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن» قال: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويهل أهل اليمن من يلملم».
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر «يهل» فيه ما ذكرناه من الدلالة على الأمر بالإهلال خبر يراد به الأمر ولم يذكر ابن عمر سماعه لميقات اليمن من النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن عباس فلذلك حسن أن يقدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما