.باب الذكر عقيب الصلاة:
16- باب الذكر عقيب الصلاة.
1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته).
وفي لفظ: «ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير».
فيه دليل على جواز الجهر بالذكر عقيب الصلاة والتكبير بخصوصه من جملة الذكر قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء يكبر بعد صلاته ويكبر من خلفه قال غيره: ولم أجد من الفقهاء من قال هذا إلا ما ذكره ابن حبيب في الواضحة: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرا عاليا ثلاث مرات وهو قديم من شأن الناس وعن مالك أنه محدث.
وقد يؤخذ منه تأخير الصبيان في الموقف لقول ابن عباس ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير فلو كان متقدما في الصف الأول لعلم انقضاء الصلاة بسماع التسليم وقد يؤخذ منه أنه لم يكن ثمة مسمع جهير الصوت يبلغ التسليم بجهارة صوته.
2- عن وراد مولى المغير بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة من كتاب إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ثم وفدت بعد ذلك على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك.
وفي لفظ: «كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وكان ينهى عن عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات».
فيه دليل على استحباب هذا الذكر المخصوص عقيب الصلاة وذلك لما اشتمل عليه من معاني التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله تعالى والمنع والإعطاء وتمام القدرة والثواب المرتب على الأذكار يرد كثيرا مع خفة الأذكار على اللسان وقلتها وإنما كان ذلك باعتبار مدلولاتها وأن كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء.
والجد: الحظ ومعنى «لا ينفع ذا الجد منك الجد» لا ينفع ذا الحظ حظه وإنما ينفعه العمل الصالح و«الجد» هاهنا- وإن كان مطلقا- فهو محمول على حظ الدنيا.
وقوله: «منك» متعلق بينفع وينبغي أن يكون «ينفع» متضمنا معنى يمنع أو ما يقاربه ولا يعود «منك» إلى الجد على الوجه الذي يقال فيه حظي منك قليل أو كثير بمعنى عنايتك بي أو رعايتك لي فغن ذلك نافع.
وفي أمر معاوية بذلك المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها وفيه جواز العمل بالمكاتبة بالأحاديث وإجرائها مجرى المسموع والعمل بالخط في مثل ذلك إذا أمن تغييره وفيه قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قررناه فيما تقدم.
وقوله عن قيل وقال الأشهر فيه: بفتح اللام على سبيل الحكاية وهذا النهي لابد من تقييده بالكثرة التي لا يؤمن معها وقوع الخطل والخطأ والتسبب إلى وقوع المفاسد من غير تعيين والإخبار بالأمور الباطلة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» وقال بعض السلف: لا يكون إماما من حدث بكل ما سمع.
وأما (إضاعة المال) فحقيقته المتفق عليها بذله في غير مصلحة دينية أو دنيوية وذلك ممنوع لأن الله تعالى جعل الأموال قياما لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت لتلك المصالح إما في حق مضيعها أو في حق غيره وأما بذله وكثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الأخرى فلا يمتنع من حيث هو وقد قالوا: لا سرف في الخير وأما إنفاقه في مصالح.
الدنيا وملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق وقدر ماله ففي كونه سفها خلاف والمشهور أنه سفه وقال بعض الشافعية ليس بسفه لأنه يقوم به مصالح البدن وملاذه وهو غرض صحيح وظاهر القرآن يمنع من ذلك والأشهر في مثل هذا أنه مباح أعني إذا كان الإنفاق في غير معصية وقد نوزع فيه.
وأما كثرة السؤال ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك راجعا إلى الأمور العلمية وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته» وفي حديث اللعان لما سئل عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وفي حديث معاوية: (نهى عن الأغلوطات) وهي شداد المسائل وصعابها وإنما كان ذلك مكروها لما يتضمن كثير منه من التكلف في الدين والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن والأصل المنع من الحكم بالظن إلا حيث تدعو الضرورة إليه.
الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعا إلى سؤال المال وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس ولا شك أن سؤال الناس بعض أموالهم ممنوع وذلك حيث يكون الإعطاء بناء على ظاهر الحال ويكون الباطن خلافه أو يكون السائل مخبرا عن أمر هو كاذب فيه قد جاء في السنة ما يدل على اعتبار ظاهر الحال في هذا وهو ما روي: أنه مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيتان» وإنما كان ذلك والله أعلم لأنهم كانوا فقراء مجردين يأخذون ويتصدق عليهم بناء على الفقر والعدم وظهر أن معه هذين الدينارين على خلاف ظاهر حاله والمنقول عن مذهب الشافعي جواز السؤال فإذا قيل بذلك فينبغي النظر في تخصيص المنع بالكثرة فإنه إن كانت الصورة تقتضي المنع فالسؤال مممنوع كثيره وقليله وعن لم نقتض المنع فينبغي حمل هذا النهي على الكراهة للكثير من السؤال مع أنه لا يخلو السؤال من غير حاجة عن كراهة فتكون الكراهة في الكثرة أشد وتكون هي المخصوصة بالنهي.
وتبين من هذا أن من يكره السؤال مطلقا- حيث لا يحرم- ينبغي أن لا يحمل قوله:«كثرة السؤال» على الوجه الأول المتعلق بالمسائل الدينية أو يجعل النهي دالا على المرتبة الأشدية من الكراهة.
وتخصيص العقوق بالأمهات مع امتناعه في الآباء أيضا لأجل شدة حقوقهن ورجحان الأمر ببرهن بالنسبة إلى الآباء وهذا من باب تخصيص الشيء بالذكر لإظهار عظمه في المنع إن كان ممنوعا وشرفه إن كان مأمورا به وقد يراعى في موضع آخر التنبيه بذكر الأدنى على الأعلى فيخص الأدنى بالذكر وذلك بحسب اختلاف المقصود.
و(وأد البنات) عبارة عن دفنهن مع الحياة وهذا التخصيص بالذكر لأنه كان هو الواقع في الجاهلية فتوجه النهي إليه لأن الحكم مخصوص بالبنات.
و(منع وهات) راجع إلى السؤال مع ضميمة النهي عن المنع وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المنع حيث يؤمر بالإعطاء وعن السؤال حيث يمنع منه فيكون كل واحد مخصوصا بصورة غير صورة الآخر.
والثاني: أن يجتمعا في صورة واحدة ولا تعارض بينهما فيكون وظيفة الطالب أن لا يسأل ووظيفة المعطي أن لا يمنع إذا وقع السؤال وهذا لابد أن يستثنى منه ما إذا كان المطلوب محرما على الطالب فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه لكونه معينا على الإثم ويحتمل أن يكون الحديث محمولا على الكثرة من السؤال والله أعلم.
3- عن سمي- مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العليا والنعيم المقيم قال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم»؟ قالوا: بلى يا رسول الله, قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة» قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».
قال سمي: فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث فقال: وهمت إنما قال لك: تسبح الله ثلاثا وثلاثين وتحمد الله ثلاثا وثلاثين وتكبر الله ثلاثا وثلاثين فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك فقال: قل: «الله أكبر وسبحان الله والحمد لله حتى تبلغ من جميعهن ثلاثا وثلاثين».
الحديث يتعلق بالمسألة المشهورة بالتفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر وقد اشتهر الخلاف والفقراء ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي تفضيل الأغنياء بسبب القربات المتعلقة بالمال وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة فلما قالها الأغنياء ساووهم فيها وبقي معهم رجحان قربات الأموال فقال عليه السلام: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» فظاهره القريب من النص أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات المالية. وبعض الناس تأول قوله: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» بتأويل مستكره يخرجه عما ذكرناه من الظاهر.
والذي يقتضيه الأصل أنهما إن تساويا وحصل الرجحان بالعبادات المالية أن يكون الغني أفضل ولا شك في ذلك وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه وإذا كانت المصالح متقابلة ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل فإن فسر بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقراء ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى فكان الأفضل بمعنى الأشرف.
وقوله: (ذهب أهل الدثور الدثر): هو المال الكثير.
وقوله: «تدركون من سبقكم» يحتمل أن يراد به السبق المعنوي وهو السبق في الفضيلة وقوله من بعدكم أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية والبعدية الزمانية ولعل الأول أقرب إلى السياق فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة وتقدم الأغنياء فيها.
وقوله: «لا يكون أحد أفضل منكم» يدل على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال وعلى أن تلك الفضيلة للأغنياء مشروطة بأن لا يفعلوا هذا الفعل الذي أمر به الفقراء وفي تلك الرواية تعليم كيفية هذا الذكر وقد كان يمكن أن يكون فرادى- أي كل كلمة على حدة- ولو فعل ذلك جاز وحصل به المقصود ولكن بين في هذه الرواية أنه يكون مجموعا ويكون العدد للجملة وإذا كان كذلك يحصل في كل فرد هذا العدد والله أعلم.
4- عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي».
الخميصة: كساء مربع له أعلام والإنبجانة: كساء غليظ.
فيه دليل على جواز لباس الثوب ذي العلم ودليل على أن اشتغال الفكر يسيرا غير قادح في الصلاة.
وفيه دليل على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها.
وفيه دليل على مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصالح الصلاة ونفي ما يخدش فيها حيث أخرج الخميصة واستبدل بها غيرها مما لا يشغل فهذا مأخوذ عن قوله: «فنظر إليها نظرة».
وبعثه إلى أبي جهم بالخميصة لا يلزم منه أن يستعملها في الصلاة كما جاء في حلة عطارد وقوله عليه السلام لعمر: «إني لم أكسكها لتلبسها» وقد استنبط الفقهاء من هذا كراهة كل ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ والنقوش والصنائع المستطرفة فإن الحكم يعم بعموم علته والعلة الاشتغال عن الصلاة وزاد بعض المالكية في هذا: كراهة غرس الأشجار في المساجد.
والإنبجانة يقال بفتح الهمزة وكسرها وكذلك في الباء وكذلك الياء تخفف وتشدد وقيل إنها الكساء من غير علم فإن كان فيه علم فهو خميصة.
وفيه دليل على قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم والطلب لها ممن يظن به السرور بذلك أو المسامحة.