3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم».
في الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد وقد استحبه أصحاب الشافعي وأما الاقتصار على مؤذن واحد فغير مكروه وفرق بين أن يكون الفعل مستحبا وبين أن يكون تركه مكروها كما تقدم أما الزيادة على مؤذنين: فليس في الحديث تعرض له ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أنه تكره الزيادة على أربعة وهو ضعيف.
وفيه دليل على أنه إذا تعدد المؤذن فالمستحب أن يترتبوا واحدا بعد واحد إذا اتسع الوقت لذلك كما في أذان بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما فإنهما وقعا مترتبين لكن في صلاة يتسع وقت أدائها كصلاة الفجر وأما في صلاة المغرب: فلم ينقل فيها مؤذنان والفقهاء من أصحاب الشافعي قالوا: يتخيرون بين أن يؤذن كل واحد منهم في زاوية من زوايا المسجد وبين أن يجتمعوا ويؤذنوا دفعة واحدة.
وفي الحديث دليل على جواز الأذان للصبح قبل دخول وقتها ذهب إليه مالك والشافعي والمنقول عن أبي حنيفة خلافه قياسا على سائر الصلوات.
والذين قالوا بجواز الأذان للصبح قبل دخول وقتها اختلفوا في وقته وذكر بعض أصحاب الشافعي: أنه يكون في وقت السحر بين الفجر الصادق والكاذب قال: ويكره التقديم على ذلك الوقت وقد يؤخذ من الحديث ما يقرب هذا وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا يؤذن بليل» إخبار يتعلق به فائدة للسامعين قطعا وذلك بأن يكون وقت الأذان مشتبها محتملا لأن يكون وقت طلوع الفجر فبين أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب إلا عند طلوع الفجر الصادق وذلك يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر.
وفي الحديث دليل على جواز أن يكون المؤذن أعمى فإن ابن أم مكتوم كان أعمى وفيه دليل على جواز تقليد الأعمى للبصير في الوقت أو جواز اجتهاده فيه فإن ابن أم مكتوم لابد له من طريق يرجع إليه في طلوع الفجر وذلك إما سماع من بصير أو اجتهاد وقد جاء في الحديث: (وكان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت) وهذا يدل على رجوعه إلى البصير ولو لم يرد ذلك لم يكن في اللفظ دليل على جواز رجوعه إلى الاجتهاد بعينه لأن الدال على أحد الأمرين مبهما لا يدل على واحد منهما معينا.
واسم ابن أم مكتوم فيما قيل: عمرو بن قيس والله أعلم.
4- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: إجابة المؤذن مطلوبة بالاتفاق وهذا الحديث دليل على ذلك ثم اختلف العلماء في كيفية الإجابة وظاهر هذا الحديث: أن الإجابة تكون بحكاية لفظ المؤذن في جميع ألفاظ الأذان وذهب الشافعي إلى أن سامع المؤذن يبدل الحيعلة بالحولقة- ويقال الحوقلة- لحديث ورد فيها وقدمه على الأول لخصوصه وعموم هذا وذكر فيه من المعنى: أن.
الأذكار الخارجة عن الحيعلة يحصل ثوابها بذكرها فيشترك السامع والمؤذن في ثوابها إذا حكاها السامع وأما الحيعلة: فمقصودها الدعاء وذلك يحصل من المؤذن وحده ولا يحصل مقصوده من السامع فعوض عن الثواب الذي يفوته بالحيعلة الثواب الذي يحصل له بالحوقلة ومن العلماء من قال: يحكيه إلى آخر التشهدين فقط.
الثاني: المختار: أن يكون حكاية قول المؤذن في كل لفظة من ألفاظ الأذان عقيب قوله وعلى هذا فقوله: «إذا سمعتم المؤذن» محمول على سماع كل كلمة منه والفاء تقتضي التعقيب فإذا حمل على ما ذكرناه: اقتضى تعقيب قول المؤذن بقول الحاكي وفي اللفظ احتمال لغير ذلك.
الثالث: اختلفوا في أنه إذا سمعه في حال الصلاة: هل يجيبه أم لا؟ على ثلاثة أقوال للعلماء أحدها: أنه يجيب لعموم هذا الحديث والثاني: لا يجيب لأن في الصلاة شغلا كما ورد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه متفق عليه.
والثالث: الفرق بين الفريضة والنافلة دون الفريضة لأن أمر النافلة أخف وذكر بعض مصنفي أصحاب الشافعي: أنه هل إجابته في الأذكار التي في الأذان إذا كان في الصلاة؟ وجهان مع الجزم بأنها لا تبطل وهذا ينبغي أن يخص بما إذا كان في غير قراءة الفاتحة أم الحيعلة: فإما أن يجيب بلفظها أو لا فإن أجاب بالحوقلة لم تبطل لأنه ذكر كما في غيرها من الذكر الذي في الأذان وإن أجاب بلفظها بطلب إلا أن يكون ناسبا أو جاهلا بأنه يبطل الصلاة.
وذكر أصحاب مالك في هذه الصورة قولين- أعني إذا قال: حي على الصلاة في الصلاة- هل تبطل؟ والذين قالوا: بالبطلان عللوه بأنه مخاطبة للآدميين فأبطل بخلاف بقية ألفاظ الأذان التي هي ذكر والصلاة محل الذكر.
ووجه من قال بعدم البطلان: ظاهر هذا الحديث وعمومه ومن جهة المعنى: إنه لا يقصد بقوله حي على الصلاة دعاء الناس إلى الصلاة بل حكاية ألفاظ الأذان.
الرابع: في الحديث دليل على أن لفظة المثل لا تقتضي المساواة من كل وجه فإنه قال: «فقولوا مثل ما يقول المؤذن» ولا يراد بذلك المماثلة في كل الأوصاف حتى رفع الصوت.
الخامس: قيل في مناسبة جواب الحيطة بالحوقلة: إنه لما دعاهم إلى الحضور أجابوا بقولهم لا حول ولا قوة إلا بالله أي بمعونته وتأييده والحول والقوة غير مترادفتين فالقوة القدرة على الشيء والحول: الاحتيال في تحصيله والمحاولة له والله أعلم بالصواب.
.باب استقبال القبلة:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله).
وفي رواية: «كان يوتر على بعيره» ولمسلم: «غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» وللبخاري: «إلا الفرائض».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: التسبيح يطلق على صلاة النافلة وهذا الحديث منه فقوله يسبح أي يصلي النافلة وربما أطلق على مطلق الصلاة وقد فسر قوله سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [قّ: 39] بصلاة الصبح وصلاة العصر والتسبيح: حقيقة في قول القائل سبحان الله فإذا أطلق على الصلاة فإما من باب إطلاق اسم البعض على الكل كما قالوا في الصلاة: إن أصلها الدعاء ثم سميت العبادة كلها بذلك لاشتمالها على الدعاء وإما لأن المصلي منزه لله عز وجل بإخلاص العبادة له وحده والتسبيح التنزيه فيكون ذلك من مجاز الملازمة لأن التنزيه يلزم من الصلاة المخلصة وحده.
الثاني: الحديث دليل على جواز النافلة على الراحلة وجواز صلاتها حيث توجهت بالراكب راحلته وكأن السبب فيه: تيسير تحصيل النوافل على المسافر وتكثيرها فإن ما ضيق طريقه قل وما اتسع طريقه سهل فاقتضت رحمة الله تعالى بالعباد أن قلل الفرائض عليهم تسهيلا للكلفة وفتح لهم طريقة تكثير النوافل تعظيما للأجور.
الثالث: قوله: «حيث كان وجهه» يستنبط منه ما قال بعض الفقهاء: إن جهة الطريق تكون بدلا عن القبلة حتى لا ينحرف عنها لغير حاجة المسير.
الرابع: الحديث يدل على الإيماء ومطلقه: يقتضي الإيماء بالركوع والسجود والفقهاء قالوا: يكون الإيماء للسجود أخفض من الإيماء للركوع ليكون البدل على وفق الأصل وليس في الحديث ما يدل عليه ولا على ما ينفيه وفي اللفظ ما يدل على أنه لم يأت بحقيقة السجود إن حمل قوله يومئ على الإيماء في الركوع والسجود معا.
الخامس: استدل بإيتاره صلى الله عليه وسلم على البعير على أن الوتر ليس بواجب بناء على مقدمة أخرى وهي: أن الفرض لا يقام على الراحلة وأن الفرض مرادف للواجب.
السادس: قوله: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة قد يتمسك به في أن صلاة الفرض لا تؤدي على الراحلة وليس ذلك بقوي في الاستدلال لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص وليس الترك بديل على الامتناع وكذا الكلام في قوله: «إلا الفرائض» فإنه إنما يدل على ترك هذا الفعل وترك الفعل لا يدل على امتناعه كما ذكرنا.
وقد يقال: إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين فترك الصلاة لها على الراحلة دائما مع فعل النوافل على الراحلة يشعر بالفرقان بينهما في الجواز وعدمه مع ما يتأيد به من المعنى وهو أن الصلوات المفروضة: قليلة محصورة لا يؤدي النزول لها إلا نقصان المطلوب بخلاف النوافل المرسلة فإنها لا حصر لها فتكلف النزول لها يؤدي نقصان المطلوب من تكثيرها مع اشتغال المسافر والله أعلم.
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة).
يتعلق بهذا الحديث مسائل أصولية وفروعية نذكر منها ما يحضرنا الآن.
أما الأصولية: فالمسألة الأولى منها: قبول خبر الواحد وعادة الصحابة في ذلك: اعتداد بعضهم بنقل بعض وليس المقصود في هذا: أن تثبت قبول خبر الواحد بهذا الخبر الذي هو خبر واحد فإن ذلك من إثبات الشيء بنفسه وإنما المقصود بذلك: التنبيه على مثال من أمثلة قبولهم لخبر الواحد ليضم إليه أمثال لا تحصى فيثبت بالمجموع القطع بقبولهم لخبر الواحد.
المسألة الثانية: ردوا هذه المسألة إلى أن نسخ الكتاب والسنة المتواترة هل يجوز بخبر الواحد أم لا؟ منعه الأكثرون لأن المقطوع لا يزال بالمظنون ونقل عن الظاهرية جوازه.
واستدلوا للجواز بهذا الحديث ووجه الدليل: أنهم عملوا بخبر الواحد ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.
وفي هذا الاستدلال عندي مناقشة ونظر فإن المسألة مفروضة في نسخ الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد ويمتنع عادة أن يكون أهل قباء- مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانثيالهم له وتيسر مراجعتهم له- أن يكون مستندهم في الصلاة إلى بيت المقدس خبرا عنه صلى الله عليه وسلم مع طول المدة وهي ستة عشر شهرا من غير مشاهدة لفعله أو مشافهة من قوله ولو سلمت أن ذلك غير ممتنع في العادة فلا شك أنه يمكن أن يكون المستند مشاهدة فعل أو مشافهة قول والمحتمل الأمرين لا يتعين حمله على أحدهما فلا يتعين حمل استقبالهم قول والمحتمل على خبر عنه صلى الله عليه وسلم بل يجوز أن يكون على مشاهدة وإذا جاز انتفاء أصل الخبر جاز انتفاء خبر المتواتر لأن انتفاء المطلق يلزم منه انتفاء قيوده فإذا جاز انتفاء خبر التواتر لم يلزم أن يكون الدليل منصوبا في المسألة المفروضة.
فإن قلت: الاعتراض على ما ذكرناه من وجهين أحدهما: أن ما ادعيت من امتناع أن يكون مستندا أهل قباء مجرد الخبر من غير مشاهدة- إن صح- إنما يصح في جميعهم أما في بعضهم: فلا يمتنع عادة أن يكون مستنده الخبر المتواتر.
الثاني: أن ما أبديته من جواز استنادهم إلى المشاهدة: يقتضي أنهم أزالوا المقطوع بالمظنون لأن المشاهدة طريق قطع وإذا جاز إزالة المقطوع به بالمشاهدة جاز زوال المقطوع به بخبر التواتر بخبر الواحد فإنهما مشتركان في زوال المقطوع بالمظنون لأن المشاهدة طريق قطع وإذا جاز إزالة المقطوع به بالمشاهدة جاز زوال المقطوع به التواتر بخبر الواحد فإنهما مشتركان في زوال المقطوع بالمظنون.
قلت: أما الجواب عن الأول: فإنه إذا سلم امتناع ذلك على جميعهم فقد انقسموا إذن إلى من يجوز أن يكون مستنده التواتر ومن يكون مستنده المشاهدة فهؤلاء المستديرون لا يتعين أن يكونوا ممن استند إلى التواتر فلا يتعين حمل الخبر عليهم.
فإن قال قائل: قوله: «أهل قباء» يقتضي أن يكون بعض من استدار مستنده التواتر فيصح الاحتجاج.
قلت: لا شك في إمكان أن يكون الكل مستندهم المشاهدة ومع هذا التجويز: لا يتعين حمل الحديث على ما ادعوه إلا أن يتبين أن مستند الكل أو البعض خبر التواتر ولا سبيل إلى ذلك.
وأما [جواب] الثاني: فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن المقصود التنبيه والمناقشة في الاستدلال بالحديث المذكور على المسألة المعينة وقد تم الغرض من ذلك وأما إثباتها بطريق القياس على المنصوص: فليس بمقصود الثاني: أن يكون إثبات جواز نسخ خبر الواحد للخبر.
المتواتر مقيسا على جواز نسخ خبر الواحد المقطوع به مشاهدة بخبر الواحد المظنون بجامع اشتراكهما في زوال المقطوع بالمظنون لكنهم نصبوا الخلاف مع الظاهرية وفي كلام بعضهم ما يدل على أن من عداهم لم يقل به والظاهرية لا يقولون بالقياس فلا يصح استدلالهم بهذا الخبر على المدعي وهذا الوجه مختص بالظاهرية والله أعلم.