إن الناظر إلى جسم الإنسان ببنيته العامة والخاصة وما فيها من الإعجاز في الخلق لا يسعه إلا أن يشكر الله ويحمده على ما أعطى لهذا الجسم من حسن التقويم {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيم}.
فهذا الجسم الذي يتكون من مجموعة من الأجهزة والتي تتألف بدورها من مجموعة من الأعضاء المكونة من مجموعة من الأنسجة حتى نصل إلى اللبنة الأساسية في هذا البناء ألا وهي الخلية.
فالخلية هي وحدة البناء في هذا الجسم مع التباين الكبير في أشكالها ووظائفها، فكل نسيج يعمل في تناسق لخدمة هذا الإنسان ثم إن الجسم بمجموعه مسخر من الله ـ عز وجل ـ لخدمة هذا الإنسان، فجميع الأجهزة تعمل دون كلل أو ملل، تواصل الليل بالنهار لذلك لم نسمع في يوم من الأيام أن جهازًا من أجهزة الجسم له إجازة أسبوعية أو شهرية ولم نسمع كذلك أي تمرد أو عصيان من قِبَل هذه الأجهزة، بل إنها كلها مسخرة لخدمة هذا الإنسان وهي ملك لله تعمل بإرادته وتسبحه، ومن تسبيح هذه الخلايا طاعتها لله بأدائها لوظيفتها الموكلة إليها فكل الخلايا تعمل طبقًا للأوامر التي أودعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كل خلية عند بداية خلقها.
والناظر إلى كل الخلايا التي لا ترى بالعين المجردة (حيث يمكن رؤيتها تحت المجهر بعد تكبيرها مئات المرات أو آلاف المرات) إذا ما أراد رؤية التفاصيل الداخلية لهذه الخلايا ـ يجد أن كل خلية تعمل وكأنها دولة مستقلة بما في الدولة من مقومات.
فالدولة لها إراداتها المستقلة ولها دوائرها ومؤسساتها المتمثلة في وزاراتها المختلفة، كما وأن لها حدودها ولها نظام حياتها الخاص بها سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. وكذلك للخلية ما للدولة من مقومات، ولنا أن نتتبع ذلك عبر السطور القادمة.
ولنبدأ بحدود هذه الخلية ألا وهو ما يسمى بالغشاء الخلوي حيث يليه الغشاء البلازمي، فالغشاء الخلوي إضافة إلى أنه يعطي الشكل والحماية للخلية فإنه يتعرف على كل المواد التي من شأنها أن تعبر إلى داخل الخلية، وذلك بسبب وجود مستقبلات على السطح الخارجي لهذه الخلايا ومن ثم تتجمع هذه المواد استعدادًا للدخول، فبعض هذه المواد ترسل إنزيمات أو مواد كيماوية لتسهيل مهمة دخولها إما عن طريق تحطيمها (تفكيكها) إلى أجزاء صغيرة أو تغير معالمها بالشكل الذي يسمح له بدخول الغشاء البلازمي، هنا يأتي دور الغشاء البلازمي والذي بدوره لا يسمح بدخول أو خروج أي مادة إلا حسب قانون معين مرتبط بإدارة الخلية حيث يكون معروفًا لدى هذا الغشاء أي المواد المسموح بإدخالها وأيها غير مسموح له بالدخول، فالخلية تعمل بنظام يوافق مصلحتها العامة والخاصة، فهي لا يمكنها إدخال أي مادة ضارة بالخلية أو أي مادة ليس للخلية مصلحة في إدخالها.
وهذه الدولة الصغيرة بإدارتها الحكيمة لا تسمح بدخول أي جسم غريب أو خروج أي مادة تحتاجها الخلية لبناء مؤسساتها، فإذا جاز التعبير فإن عملية الاستيراد والتصدير في الخلية تتم حسب نظام مدروس ومخطط له من قبل إدارة الخلية، وطالما أن حدود هذه الخلية آمن من عبث الإنسان والبيئة المحيطة بها فإنها تعيش في أمان واستقرار، ولكن إذا ما انتهكت حدود هذه الدولة الصغيرة وذلك عن طريق إجبارها على التعامل مع ما حرم الله من مآكل ومشارب أو غير ذلك، فإنها تنحرف عن فطرتها التي فطرها الله عليها مما يؤدي إلى قيامها بوظائف لا تفيد الخلية بشيء، وبالتالي لا تنفع هذا الجسم الذي أوكله الله إليها خدمته لذلك إذا ما ارتكب الإنسان المحرمات التي من شأنها الضرر بهذا الجسم فإنها تشتكي صاحب هذا الجسم والمخول بالحفاظ عليه، فإنها تشتكيه إلى الحكم يوم القيامة ـ سبحانه ـ لأنه كان السبب في تعطيلها عن القيام بوظيفتها بمعنى أنه عطلها عن تسبيح الله ـ عز وجل.
لذلك أقول: إن ما ينطبق على هذه الخلية وهي اللبنة الأساسية في بناء هذا الجسم ينطبق على الجسم كله وينطبق على أية دولة، فإذا صلحت هذه الخلية وبقية الخلايا صلح سائر الجسم، وكذلك الأمر إذا ما صلح الفرد صلح المجتمع وبالتالي صلحت الدولة.
أعود إلى الخلية وأمنها واستقرارها علمًا بأن في كل خلية ما يسمى بالاستقرار الداخلي، فإذا ما انتهكت هذه الركائز الأساسية فإن الوضع ينذر بقرب نهاية هذه الخلية وما يترتب عليه من تفشي ظاهرة الفساد في الجسم وبالتالي قرب نهايته.
وكما أن للدول حدودًا ومعالم خاصة تميزها عن غيرها وتميز سكانها عن غيرهم، فإن لكل خلية ما يميزها عن غيرها حيث يوجد على سطح كل خلية مركبات كيماوية خاصة بها تميزها عن خلايا أجسام أخرى، مما يتيح لخلايا الدفاع في جسم الإنسان التعرف على خلايا جسمه، فتميز هذه الخلايا الدفاعية بين القريب والغريب، وإذا ما تغيرت هذه العلامات المميزة على سطح الخلايا نتيجة لتعرض الجسم لعوامل مختلفة فإن ذلك يتيح الفرصة لخلايا الدفاع أن تهاجم هذه الخلايا الموجودة في الجسم نفسه مما يؤدي إلى القضاء عليها.
ولأنه إذا ما فسدت خلية في الجسم فإن خلايا الدفاع تقوم بالتخلص منها لكي لا تفسد غيرها وتؤدي إلى تفشي الفساد في الجسم، الأمر الذي يؤدي إلى أن يقاتل الجسم نفسه وهو ما يعرف بالاصطلاح الدولي (الفتنة الداخلية) إن خلايا الدفاع في الجسم لها القدرة على تمييز خلايا الجسم من غيرها من الخلايا وبأدق التفاصيل، ولعل من أقرب الأمثلة: عمليات زراعة الأعضاء وما تشتمل عليه من تحاليل دقيقة لمعرفة مدى القرابة بين المتبرع والمستقبل، وبالرغم من ذلك فإن المريض يعطى أدوية تقلل من كراهية جهاز المناعة للأعضاء المزروعة.
وإذا ما دخلنا بقطار العلم السريع إلى داخل هذه الدولة الصغيرة (الخلية) فإن المرء سيقف مذهولاً عما سيتحدث عنه من مقومات هذه الدولة، حيث الدوائر المتعددة والمتخصصة. وإذا جاز لي أن أدعوها بالوزارات المختلفة في عملها والمتعاونة فيما بينهاـ فلا عجب فهناك على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ وزارة الطاقة ـ الميتوكندريا ـ فهذه العضية تقوم بتصنيع عملة الطاقة المستخدمة داخل الخلية وهو ما يعرف بـ ATP أو آذينوذين ثلاثي الفوسفات حيث إن معظم عمليات البناء والهدم تحتاج هذه العملة من الطاقة ولأهمية هذه العضية في الخلية فإنها محاطة بغشائين بدلاً من غشاء واحد، أخذا بعين الاعتبار أن زيادة الالتواءات في الغشاء الداخلي إنما هو لزيادة إنتاج الطاقة.
ومن حيث التفاصيل الكيميائية فإن جزيئًا يرتبط مع جزيئات الحمض النووي في النواة، ونظرًا لأهمية الطاقة في تسيير أمور الدولة والذي يكمن في وضع مولدات كهربائية احتياطية في حالات الطوارئ، فإن للميتوكندريا نوعًا من الاستقلال الذاتي في عملية إنتاج الطاقة يتمثل بوجود جزيء من الحمض النووي DNA (دنا) خاص بهذه العضية وريبوسومات لتحضير الإنزيمات اللازمة لإنتاج الطاقة، ومن الإعجاز الخلقي أيضًا أن الخلايا الخاصة بالحركة والموجودة داخل جسم الإنسان كخلايا العضلات وخلية الحوين المنوي ـ تحتوي على أضعاف مضاعفة من عضيات الميتوكندريا وبخاصة ذيل الحوين المنوي اللازم لحركة هذا الحوين.
والعضية الأخرى في الخلية والتي تتميز بوجود هذه الاستقلالية في اتخاذ القرار بالإنتاج هي البلاستيدات الخضراء في الخلايا النباتية والطحالب، وحيث إنها هي المركز الرئيسي لاستقبال أشعة الشمس وتحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية مختزنة وذلك بتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مواد سكرية.
ومن أهم الإدارات في الخلية الإدارة العامة المركزية أو ما يعرف برئاسة الدولة أو النواة، فالنواة هي المركز الذي يسيطر على كل العمليات الحيوية في الخلية، والحديث عن الإدارة في الخلية حديث شيق وممتع حيث تجد أن النواة تعطي أوامرها بتصنيع مواد تحتاجها العضيات (الوزارات) في الخلية لكي يستقيم عملها في إطار من الحرية المسؤولة، فكل العضيات في الخلية تعمل بجد واجتهاد ـ وبمراقبة من النواة ـ توجد في كل خلية جزئيات تعمل جزيئات تعمل على تصحيح أي خطأ في عملية التنفيذ للأوامر التي تعطى من النواة أو عندما تتعرض الخلية إلى ظروف قاسية تؤدي إلى تغيير في بعض البروتينات الموجودة أو أخطاء في عملية التصنيع، فإن هذه الجزيئات تقوم بتصحيح هذه الأخطاء جميعها وإذا جاز لي التعبير فإن هذه الجزيئات تعمل عمل كل فرد مسلم من حيث التذكير والأمر بالمعروف للرجوع إلى جادة الصواب.
ولو أن هذه الجزيئات ذات التركيب الخاطئ تُرِكت دونما تصحيح لأدَّت إلى هلاك هذه الخلية، فالخلية تعالج الأمور في مهدها ولا تترك الحبل على الغارب. كذلك وإن العنصر الأساسي في عملية تصنيع البروتينات في الخلية هو ما يسمى بالحمض النووي المرسَلْ RNA (رنا) حيث يتم بواسطته تصنيع البروتينات في الخلية.
وتعتبر البروتينات من المواد الأساسية والهامة جدٌّا في تركيب ووظيفة كل جزء من أجزاء الخلية، لذلك فإن كل شيء في الخلية محكوم للنواة حكمًا طوعيٌّا إراديٌّا، لا حكمًا قهريٌّا تسلطيٌّا، وإذا ما تعرضت النواة في الخلية إلى بعض المؤثرات الخارجية ـ كأن يتعاطى صاحب هذه الخلية والخلايا أمورًا حرمها الله ـ فإن بعض هذه المؤثرات تؤدي بدورها إلى تحور وتغيير في طبيعة المادة الوراثية الموجودة في النواة.
وبالتالي فإن هذه النواة المتطورة والخارجة عن طبيعتها تقوم بإعطاء الأوامر الخاطئة إلى الخلية حيث تتحول هذه الخلية إلى خلية سرطانية لا يستفيد منها الجسم بشيء وإنما تعتبر عالة عليه تشاركه المأكل والمشرب دونما فائدة، والخلايا السرطانية هذه أشبه ما تكون بالشَّعب المخرب الذي يأخذ ويفسد ولا يعطي، وطالما الحال كذلك ـ فإن الخلايا السرطانية تتفشى وتنشر الفساد مما ينذر بقرب النهاية.
ولك أن تتصور أن رئاسة الخلية هذه محاطة بغشاء نووي لا يسمح بدخول أو خروج أي مواد كيماوية إلا حسب قانون معين وعبر بوابات خاصة من خلال الغشاء النووي، هذا يعني أن هذه الرئاسة لها احترامها وتقديرها من الخلية بكل عضياتها، كما أن لكل عضية استقلالها، علمًا بأن التعاون بين كل أفراد هذا المجتمع الصغير هو على أحسن ما يكون، من أجل أن تقوم هذه الخلية بوظيفتها الخاصة بها متعاونة كذلك مع بقية خلايا الجسم لكي يستقيم أمر هذا الجسم ويقوي على عبادة الله وحده، حيث يريد الله ـ سبحانه وتعالى ـ منا أن نكون متعاونين تعاون عضيات الخلية وتعاون الخلايا مع بعضها وتعاون الأنسجة فيما بينها كل ذلك حتى يبني أفراد المجتمع المسلم مجتمعهم على أحسن ما يكون البناء والتعاون والإخلاص في العمل.
هنالك شبكة مواصلات ممتازة داخل الخلية، تربط جميع أجزاء الخلية بعضها ببعض، حيث تعطي الشبكة دعامة داخلية للخلية بالإضافة إلى تسهيل حركة العديد من العضيات على هذه الشبكة، وتسمى هيكل الخلية.
إن كل مادة تصنع داخل الخلية، فللخلية حق الأولوية في الانتفاع بها، ولكن إذا ما أريد تصديرها إلى الخارج فإنه يتم تغليفها وتنسيقها إلى هذا الغرض من قبل ما يعرف بأجسام جولجي، وحتى في هذه الحالة الأخيرة فإن الخلية تهدف من وراء هذا التصدير ـ ومعظمه من الإنزيمات ـ مصلحة الخلية (حيث إن هذه الإنزيمات تقوم بتسهيل دخول العديد من المواد الغذائية إلى داخل الخلية).
فالخلية تعتبر دولة مستقلة لها نظامها الغذائي الخاص بها، تسمح بدخول وخروج بعض المواد حسب ما تقتضيه مصلحة الخلية. وهكذا تقوم الخلية بالتخلص من كل الفضلات الضارة في الخلية، حتى لا تتراكم بداخلها وتؤدي إلى موتها.
لذلك فإن كل ما ينطبق على الخلية وهي اللبنة الأساسية ينطبق على الجسم كله، وهو ما ينطبق على الدول بأفرادها.
هذا غيض من فيض أردت من خلاله تبيان عظمة الخالق - سبحانه وتعالى - ووحدانيته في تسيير أمور الخلق، وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.